كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثانية:
خص بعض الأوقات بالأمر بالتسبيح وذلك لأن أفضل الأعمال أدومها، لكن أفضل الملائكة ملازمون للتسبيح على الدوام كما قال تعالى: {يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] والإنسان ما دام في الدنيا لا يمكنه أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح، لكونه محتاجًا إلى أكل وشرب وتحصيل مأكول ومشروب وملبوس ومركوب فأشار الله تعالى إلى أوقات إذا أتى العبد بتسبيح الله فيها يكون كأنه لم يفتر وهي الأول والآخر والوسط أول النهار وآخره ووسطه فأمر بالتسبيح في أول الليل ووسطه، ولم يأمر بالتسبيح في آخر الليل لأن النوم فيه غالب والله منَّ على عباده بالاستراحة بالنوم، كما قال: {وَمنْ ءاياته مَنَامُكُم باليل} [الروم: 23] فإذا صلى في أول النهار تسبيحتين وهما ركعتان حسب له صرف ساعتين إلى التسبيح، ثم إذا صلى أربع ركعات وقت الظهر حسب له صرف أربع ساعات أخر فصارت ست ساعات، وإذا صلى أربعًا في أواخر النهار وهو العصر حسب له أربع أخرى فصارت عشر ساعات، فإذا صلى المغرب والعشاء سبع ركعات أخر حصل له صرف سبع عشرة ساعة إلى التسبيح وبقي من الليل والنهار سبع ساعات وهي ما بين نصف الليل وثلثيه لأن ثلثيه ثمان ساعات ونصفه ست ساعات وما بينهما السبع، وهذا القدر لو نام الإنسان فيه لكان كثيرًا وإليه أشار تعالى بقوله: {قُم الليل إلاَّ قَليلًا نّصْفَهُ أَو انقص منْهُ قَليلًا أَوْ زدْ عَلَيْه} [المزمل: 2 4] وزيادة القليل على النصف هي ساعة فيصير سبع ساعات مصروفة إلى النوم والنائم مرفوع عنه القلم، فيقول الله عبدي صرف جميع أوقات تكليفه في تسبيحي فلم يبق لكم أيها الملائكة عليهم المزية التي ادعيتم بقولكم: {نَحْنُ نُسَبّحُ بحَمْدكَ وَنُقَدّسُ لَكَ} [البقرة: 30] على سبيل الانحصار بل هم مثلكم فمقامهم مثل مقامكم في أعلى عليين، واعلم أن في وضع الصلاة في أوقاتها وعدد ركعاتها واختلاف هيئاتها حكمة بالغة، أما في عدد الركعات فما تقدم من كون الإنسان يقظان في سبع عشرة ساعة ففرض عليه سبع عشرة ركعة، وأما على مذهب أبي حنيفة حيث قال بوجوب الوتر ثلاث ركعات وهو أقرب للتقوى، فنقول هو مأخوذ من أن الإنسان ينبغي أن يقلل نومه فلا ينام إلا ثلث الليل مأخوذًا من قوله تعالى: {إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى من ثُلُثَى الليل وَنصْفَهُ وَثُلُثَهُ} ويفهم من هذا أن قيام ثلثي الليل مستحسن مستحب مؤكد باستحباب ولهذا قال عقيبه: {عَلمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20] ذكر بلفظ التوبة، وإذا كان كذلك يكون الإنسان يقظان في عشرين ساعة فأمر بعشرين ركعة، وأما النبي عليه السلام فلما كان من شأنه أن لا ينام أصلًا كما قال: «تنام عيناي ولا ينام قلبي» جعل له كل الليل كالنهار فزيد له التهجد فأمر به، وإلى هذا أشار تعالى في قوله: {وَمنَ الليل فاسجد لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلًا طَويلًا} [الإنسان: 26] أي كل الليل لك للتسبيح فصار هو في أربع وعشرين ساعة مسبحًا، فصار من الذين لا يفترون طرفة عين، وأما في أوقاته فما تقدم أيضًا أن الأول والآخر والوسط هو المعتبر فشرع التسبيح في أول النهار وآخره، وأما الليل فاعتبر أوله ووسطه كما اعتبر أول النهار ووسطه، وذلك لأن الظهر وقته نصف النهار والعشاء وقته نصف الليل لأنا بينا أن الليل المعتبر هو المقدار الذي يكون الإنسان فيه يقظان وهو مقدار خمس ساعات فجعل وقته في نصف هذا القدر وهو الثلاثة من الليل، وأما أبو حنيفة لما رأى وجوب الوتر كان زمان النوم عنده أربع ساعات وزمان اليقظة بالليل ثمان ساعات وأخر وقت العشاء الآخرة إلى الرابعة والخامسة، ليكون في وسط الليل المعتبر، كما أن الظهر في وسط النهار، وأما النبي صلى الله عليه وسلم لما كان ليله نهارًا ونومه انتباهًا قال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وتأخير العشاء إلى نصف الليل» ليكون الأربع في نصف الليل كما أن الأربع في نصف النهار، وأما التفصيل فالذي يتبين لي أن النهار اثنتا عشرة ساعة زمانية والصلاة المؤداة فيها عشر ركعات فيبقى على المكلف ركعتان يؤديهما في أول الليل ويؤدي ركعة من صلاة الليل ليكون ابتداء الليل بالتسبيح كما كان ابتداء النهار بالتسبيح، ولما كان المؤدى من تسبيح النهار في أوله ركعتين كان المؤدى من تسبيح الليل في أوله ركعة لأن سبح النهار طويل مثل ضعف سبح الليل، لأن المؤدى في النهار عشرة والمؤدى في الليل من تسبيح الليل خمس.
المسألة الثانية:
في فضيلة السبحلة والحمدلة في المساء والصباح، ولنذكرها من حيث النقل والعقل، أما النقل فأخبرني الشيخ الورع الحافظ الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بحلب مسندًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبعض أصحابه: «أتعجز عن أن تأتي وقت النوم بألف حسنة؟ فتوقف فقال النبي عليه السلام: قل سبحان الله والحمد لله والله أكبر مائة مرة يكتب لك بها ألف حسنة» وسمعته يقول رحمه الله مسندًا «من قال خلف كل صلاة مكتوبة عشر مرات سبحان الله وعشر مرات الله أكبر أدخل الجنة» وأما العقل فهو أن الله تعالى له صفات لازمة لا من فعله وصفات ثابتة له من فعله، أما الأولى فهي صفات كمال وجلال خلافها نقص، فإذا أدرك المكلف الله بأنه لا يجوز أن يخفي عليه شيء لكونه عالمًا بكل شيء فقد نزهه عن الجهل ووصفه بضده، وإذا عرفه بأنه لا يعجز عن شيء لكونه قادرًا على كل شيء فقد نزهه عن العجز، وإذا علم أنه لا يجري في ملكه إلا ما يشاء لكونه مريدًا لكل كائن فقد وصفه ونزهه، وإذا ظهر له أنه لا يجوز عليه الفناء لكونه واجب البقاء فقد نزهه، وإذا بان له أنه لا يسبقه العدم لاتصافه بالقدم فقد نزهه، وإذا لاح له أنه لا يجوز أن يكون عرضًا أو جسمًا أو في مكان لكونه واجبًا بريئًا عن جهات الإمكان فقد نزهه.
لكن صفاته السلبية والإضافية لا يعدها عاد ولو اشتغل بها واحد لأفنى فيها عمره ولا يدرك كنهها.
فإذا قال قائل مستحضرًا بقلبه سبحان الله متنبهًا لما يقوله من كونه منزهًا له عن كل نقص فإتيانه بالتسبيح على هذا الوجه من الإجمال يقوم مقام إتيانه به على سبيل التفصيل، لكن لا ريب في أن من أتى بالتسبيح عن كل واحد على حدة مما لا يجوز على الله يكون قد أتى بما لا تفي به الأعمار، فيقول هذا العبد أتى بتسبيحي طول عمره ومدة بقائه فأجازيه بأن أطهره عن كل ذنب وأزينه بخلع الكرامة وأنزله بدار المقامة مدة لا انتهاء لها، وكما أن العبد ينزه الله في أول النهار وآخره ووسطه، فإن الله تعالى يطهره في أوله وهو دنياه وفي آخره وهو عقباه وفي وسطه وهو حالة كونه في قبره الذي يحويه إلى أوان حشره وهو مغن. اهـ.
وأما الثانية وهو صفات الفعل فالإنسان إذا نظر إلى خلق الله السموات يعلم أنها نعمة وكرامة فيقول الحمد لله، فإذا رأى الشمس فيها بازغة فيعلم أنها نعمة وكرامة فيقول الحمد لله، وكذلك القمر وكل كوكب والأرض وكل نبات وكل حيوان يقول الحمد لله، لكن الإنسان لو حمد الله على كل شيء على حدة لا يفي عمره به، فإذا استحضر في ذهنه النعم التي لا تعد كما قال تعالى: {وَإن تَعُدُّوا نعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] ويقول الحمد لله على ذلك فهذا الحمد على وجه الإجمال يقوم منه مقام الحمد على سبيل التفصيل، ويقول عبدي استغرق عمره في حمدي وأنا وعدت الشاكر بالزيادة فله علي حسنة التسبيح الحسنى وله على حمده الزيادة ثم إن الإنسان إذا استغرق في صفات الله قد يدعوه عقله إلى التفكر في الله تعالى بعد التفكر في آلاء الله، فكل ما يقع في عقله من حقيقته فينبغي أن يقول الله أكبر مما أدركه، لأن المدركات وجهات الإدراكات لا نهاية لها، فإن أراد أن يقول على سبيل التفصيل الله أكبر من هذا الذي أدركته من هذا الوجه وأكبر مما أدركته من ذلك الوجه وأكبر مما أدركته من وجه آخر يفني عمره ولا يفي بإدراك جميع الوجوه التي يظن الظان أنه مدرك لله بذلك الوجه، فإذا قال مع نفسه الله أكبر أي من كل ما أتصوره بقوة عقلي وطاقة إدراكي يكون متوغلًا في العرفان وإليه الإشارة بقوله:
العجز عن درك الإدراك إدراك. فقول القائل المستيقظ: «سبحان الله والحمد لله والله أكبر» مفيد لهذه الفوائد، لكن شرطه أن يكون كلامًا معتبرًا وهو الذي يكون من صميم القلب لا الذي يكون من طرف اللسان.
المسألة الرابعة:
قوله: {وَعَشيًّا} عطف على {حينٍ} أي سبحوه حين تمسون وحين تصبحون وعشيًا، وقوله: {وَلَهُ الحمد في السموات والأرض} كلام معترض بين المعطوف والمعطوف عليه وفيه لطيفة وهو أن الله تعالى لما أمر العباد بالتسبيح كأنه بين لهم أن تسبيحهم الله لنفعهم لا لنفع يعود على الله فعليهم أن يحمدوا الله إذا سبحوه وهذا كما في قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَىَّ إسلامكم بَل الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للإيمان} [الحجرات: 17].
المسألة الخامسة:
قدم الإمساء على الإصباح هاهنا وأخره في قوله: {وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصيلًا} [الأحزاب: 42] وذلك لأن هاهنا أول الكلام ذكر الحشر والإعادة من قوله: {الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ} إلى قوله: {فَأُوْلَئكَ في العذاب مُحْضَرُونَ} [الروم: 11- 16] وآخر هذه الآية أيضًا ذكر الحشر والإعادة بقوله: {وَكَذَلكَ تُخْرَجُونَ} والإمساء آخر فذكر الآخر ليذكر الآخرة.
المسألة السادسة:
في تعلق إخراج الحي من الميت والميت من الحي بما تقدم عليه هو أن عند الإصباح يخرج الإنسان من شبه الموت وهو النوم إلى شبه الوجود وهو اليقظة، وعند العشاء يخرج الإنسان من اليقظة إلى النوم، واختلف المفسرون في قوله: {يُخْرجُ الحى منَ الميت} فقال أكثرهم: يخرج الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة، وكذلك الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان، وقال بعضهم المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، ويمكن أن يقال المراد: {يُخْرجُ الحى منَ الميت} أي اليقظان من النائم والنائم من اليقظان، وهذا يكون قد ذكره للتمثيل أي إحياء الميت عنده وإماتة الحي كتنبيه النائم وتنويم المنتبه.
ثم قال تعالى: {ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون} وفي هذا معنى لطيف وهو أن الإنسان بالموت تبطل حيوانيته وأما نفسه الناطقة فتفارقه وتبقى بعده كما قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتلُوا في سَبيل الله أمواتا} [آل عمران: 169] لكن الحيوان نام متحرك حساس لكن النائم لا يتحرك ولا يحس والأرض الميتة لا يكون فيها نماء، ثم إن النائم بالانتباه يتحرك ويحس والأرض الميتة بعد موتها تنمو بنباتها فكما أن تحريك ذلك الساكن وإنماء هذا الواقف سهل على الله تعالى كذلك إحياء الميت سهل عليه وإلى هذا أشار بقوله: {وَكَذَلكَ تُخْرَجُونَ}.
{وَمنْ آيَاته أَنْ خَلَقَكُمْ منْ تُرَابٍ ثُمَّ إذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشرُونَ (20)}.
لما أمر الله تعالى بالتسبيح عن الأسواء وذكر أن الحمد له على خلق جميع الأشياء وبين قدرته على الإماتة والإحياء بقوله: {فَسُبْحَانَ الله} إلى قوله: {وَكَذَلكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 16 20] ذكر ما هو حجة ظاهرة وآية باهرة على ذلك ومن جملتها خلق الإنسان من تراب وتقريره هو أن التراب أبعد الأشياء عن درجة الأحياء، وذلك من حيث كيفيته فإنه بارد يابس والحياة بالحرارة والرطوبة، ومن حيث لونه فإنه كدر والروح نير، ومن حيث فعله فإنه ثقيل والأرواح التي بها الحياة خفيفة، ومن حيث السكون فإنه بعيد عن الحركة والحيوان يتحرك يمنة ويسرة وإلى خلف وإلى قدام وإلى فوق وإلى أسفل، وفي الجملة فالتراب أبعد من قبول الحياة عن سائر الأجسام لأن العناصر أبعد من المركبات لأن المركب بالتركيب أقرب درجة من الحيوان والعناصر أبعدها التراب لأن الماء فيه الصفاء والرطوبة والحركة وكلها على طبع الأرواح والنار أقرب لأنها كالحرارة الغريزية منضجة جامعة مفرقة ثم المركبات وأول مراتبها المعدن فإنه ممتزج، وله مراتب أعلاها الذهب وهو قريب من أدنى مراتب النبات وهي مرتبة النبات الذي ينبت في الأرض ولا يبرز ولا يرتفع، ثم النباتات وأعلى مراتبها وهي مرتبة الأشجار التي تقبل التعظيم، ويكون لثمرها حب يؤخذ منه مثل تلك الشجرة كالبيضة من الدجاجة والدجاجة من البيضة قريبة من أدنى مراتب الحيوانات وهي مرتبة الحشرات التي ليس لها دم سائل ولا هي إلى المنافع الجليلة وسائل كالنباتات، ثم الحيوان وأعلى مراتبها قريبة من مرتبة الإنسان فإن الأنعام ولاسيما الفرس تشبه العتال والحمال والساعي، ثم الإنسان، وأعلى مراتب الإنسان قريبة من مرتبة الملائكة المسبحين لله الحامدين له فالله الذي خلق من أبعد الأشياء عن مرتبة الأحياء حيًا هو في أعلى المراتب لا يكون إلا منزهًا عن العجز والجهل، ويكون له الحمد على إنعام الحياة، ويكون له كمال القدرة ونفوذ الإرادة فيجوز منه الإبداء والإعادة، وفي الآية لطيفتان إحداهما: قوله: {إذَا} وهي للمفاجأة يقال خرجت فإذا أسد بالباب وهو إشارة إلى أن الله تعالى خلقه من تراب بكن فكان لا أنه صار معدنًا ثم نباتًا ثم حيوانًا ثم إنسانًا وهذا إشارة إلى مسألة حكمية، وهي أن الله تعالى يخلق أولًا إنسانًا فينبهه أنه يحيي حيوانًا وناميًا وغير ذلك لا أنه خلق أولًا حيوانًا، ثم يجعله إنسانًا فخلق الأنواع هو المراد الأول، ثم تكون الأنواع فيها الأجناس بتلك الإرادة الأولى، فالله تعالى جعل المرتبة الأخيرة في الشيء البعيد عنها غاية من غير انتقال من مرتبة إلى مرتبة من المراتب التي ذكرناها اللطيفة الثانية: قوله: {بُشّرَ} إشارة إلى القوة المدركة لأن البشر بشر لا بحركته، فإن غيره من الحيوانات أيضًا كذلك وقوله: {تَنتَشرُونَ} إلى القوة المحركة وكلاهما من التراب عجيب، أما الإدراك فلكثافته وجموده، وأما الحركة فلثقله وخموده وقوله: {تَنتَشرُونَ} إشارة إلى أن العجيبة غير مختص بخلق الإنسان من التراب بل خلق الحيوان المنتشر من التراب الساكن عجيب فضلًا عن خلق البشر، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
وهي أن الله خلق آدم من تراب وخلقنا منه فكيف قال: {خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: ما قيل إن المراد من قوله: {خَلَقَكُمْ} أنه خلق أصلكم والثاني: أن نقول: إن كل بشر مخلوق من التراب، أما آدم فظاهر، وأما نحن فلأنا خلقنا من نطفة والنطفة من صالح الغذاء الذي هو بالقوة بعض من الأعضاء، والغذاء إما من لحوم الحيوانات وألبانها وأسمانها، وإما من النبات والحيوان أيضًا له غذاء هو النبات لكن النبات من التراب، فإن الحبة من الحنطة والنواة من الثمرة لا تصير شجرة إلا بالتراب وينضم إليها أجزاء مائية ليصير ذلك النبات بحيث يغذو.
المسألة الثانية:
قال تعالى في موضع آخر: {خَلَقَ منَ الماء بَشَرًا} [الفرقان: 2] وقال: {مّن مَّاء مَّهينٍ} [المرسلات: 20] وههنا قال من: {تُرَابٍ} فكيف الجمع؟ قلنا أما على الجواب الأول: فالسؤال زائل، فإن المراد منه آدم، وأما على الثاني: فنقول هاهنا قال ما هو أصل أول، وفي ذلك الموضع قال ما هو أصل ثان لأن ذلك التراب الذي صار غذاء يصير مائعًا وهو المني، ثم ينعقد ويتكون بخلق الله منه إنسانًا أو نقول الإنسان له أصلان ظاهران الماء والتراب فإن التراب لا ينبت إلا بالماء ففي النبات الذي هو أصل غذاء الإنسان تراب وماء فإن جعل التراب أصلًا والماء لجمع أجزائه المتفتتة فالأمر كذلك وإن جعل الأصل هو الماء والتراب لتثبيت أجزائه الرطبة من السيلان فالأمر كذلك، فإن قال قائل الله تعالى يعلم كل شيء فهو يعلم أن الأصل ماذا هو منهما، وإنما الأمر عندنا مشتبه يجوز هذا وذاك، فإن كان الأصل هو التراب فكيف قال: {منَ الماء بَشَرًا} وإن كان الماء فكيف قال: {خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} وإن كانا هما أصلين فلم لم يقل خلقكم منهما فنقول فيه لطيفة، وهي أن كون التراب أصلًا والماء أصلًا والماء ليس لذاتيهما، وإنما هو يجعل الله تعالى فإن الله نظرًا إلى قدرته كان له أن يخلق أول ما يخلق الإنسان ثم يفنيه ويحصل منه التراب ثم يذوبه ويحصل منه الماء، لكن الحكمة اقتضت أن يكون الناقص وسيلة إلى الكامل لا الكامل يكون وسيلة إلى الناقص فخلق التراب والماء أولًا، وجعلهما أصلين لمن هو أكمل منهما بل للذي هو أكمل من كل كائن وهو الإنسان، فإن كان كونهما أصلين ليس أمرًا ذاتيًا لهما بل بجعل جاعل فتارة جعل الأصل التراب وتارة الماء ليعلم أنه بإرادته واختياره، فإن شاء جعل هذا أصلًا وإن شاء جعل ذلك أصلًا، وإن شاء جعلهما أصلين.
المسألة الثالثة:
قال الحكماء: إن الإنسان مركب من العناصر الأربعة وهي التراب والماء والهواء والنار، وقالوا التراب فيه لثباته، والماء لاستمساكه، فإن التراب يتفتت بسرعة، والهواء لاستقلاله كالزق المنفوخ يقوم بالهواء ولولاه لما كان فيه استقلال ولا انتصاب، والنار للنضج والالتئام بين هذه الأشياء، فهذا هذا صحيح أم لا؟ فإن كان صحيحًا فكيف اعتبر الأمرين فحسب ولم يقل في موضع آخر إنه خلقكم من نار ولا من ريح؟ فنقول أما قولهم فلا مفسدة فيه من حيث الشرع فلا ننازعهم فيه إلا إذا قالوا بأنه بالطبيعة كذلك، وأما إن قالوا بأن الله بحكمته خلق الإنسان من هذه الأشياء فلا ننازعهم فيه، وأما الآيات فنقول ما ذكرتم لا يخالف هذا لأن الهواء جعلتموه للاستقلال والنار للنضج فهما يكونان بعد امتزاج الماء بالتراب، فالأصل الموجود أولاهما لا غير فلذلك خصهما ولأن المحسوس من العناصر في الغالب هو التراب والماء ولاسيما كونهما في الإنسان ظاهر لكل أحد فخص الظاهر المحسوس بالذكر. اهـ.